✍ مصلح الأحمدي
يُقال بأن الأوراق الثبوتية للمواطنة ليست سوى صورة للانتماء الحقيقي وشكل من أشكال الولاء المطلق والكامل للوطن النابع من الإيمان الذي يغمر القلب بالوطن ومن الإخلاص في القول والعمل الذي يخدم مصالحه العليا. فالولاء الوطني الحق لا يثبت بالادعاء ولا بمجرد الإقامة، ولا هو بكثرة النياشين والأوسمة التي تُمنح باسم الوطن لمن لا يجرّد له الولاء.
الولاء الوطني من القيم الثابتة التي تزداد وضوحاَ وحضوراَ عندما يُستهدف الوطن ويتربّص به الأعداء، وهو المحك الأكثر دقةً لتقييم الولاء الوطني واختبار مصداقية أدعيائه، حيث ترى شديدي الولاء للوطن يتقاطرون من أماكنهم المختلفة والمتباعدة عند كل نجدة ومع كل استغاثة لتقديم أغلى ما يملكون فداءً للوطن الغالي، ولسان حالهم يقول:
بحثت عن هبةٍ أحبوك يا وطني فلم أجد لك إلا قلبي الدامي.
وأكثر هؤلاء في الغالب هم من بسطاء الناس وعامتهم، نقول ذلك لأن الواقع يؤكد أن هؤلاء هم الأكثر حضوراَ وبقاءً في مواطن الشدة والنوازل لتقديم أرواحهم، (والجود بالنفس أسمى غاية الجودِ).
إن الولاء الوطني من القيم الثابتة التي لا تتغير بتغيّر الأزمنة أو الأنظمة أو الحكام أو الأحوال أو غير ذلك، فالولاء الوطني لا يرتبط بأيٍ مما سبق لأنه (مبدأ شريف لا ينسجم مع التبعية بأي حالٍ من الأحوال أياً كان شكلها أو نوعها).
فالولاء ـ الذي هو الحب والموالاة والدفاع والنصرة وربط المصير بالمصير ـ هو للوطن ومن أجل الوطن ولسلامة وأمن واستقرار الوطن. إذ أن الوطن عند الوطنيين ذوي الولاء الخالص والمطلق أغلى من نفوسهم وأجمل ما في الدنيا، ترى في توحدهم ـ لأجل الوطن ـ آية وفي ثباتهم معجزة وفي تفانيهم أسطورة.. وفي موالهم الوطني طربٌ لمن لا يُطرب:
ها هنا نحن وقد وحدنا
يمنٌ أصبح منا أثمنا
وغدت أصقاعه معبدنا
لم ولن نعبد فيها وثنا
أو يرى نخّاس أرض أننا
نأخذ الدنيا ونُعطي اليمنا
وعلى الرغم من واحدية مكونات البقاع والأصقاع إلا أنّ مسقط الرأس ومسرح النشأة .. شيئٌ آخر، ولهذا عندما خرج الرسول الكريم من مكة المكرمة مضطراً للهجرة إلى المدينة التفت إليها ليلقي النظرة الأخيرة والعبارة المؤثرة قائلاً: (أنت أحب بلاد الله إليّ).. وهكذا تتسع دائرة الحب الفياض والمشاعر الصادقة اتساع دائرة الوطن.
الولاء الوطني يتجسّد في ذلك الجسم النحيف والوجه الشاحب لمن يحمل عدته رابضاً في موقعه قد آلى على نفسه ألا يعود إلا بإحدى الحسنيين.. وفي جريح مواجهة مع أعداء الوطن يسارع في تضميد جراحه ليعود إلى مواقع الشرف والبطولة.. وهو كذلك في وصية شهيد في لحظاته الأخيرة إلى زملائه ورفاق دربه أن ( اثبتوا.. فوالله أننا على حقٍ وهم على باطل) وفيها الأثر البالغ على معنويات الجنود وشحذ هممهم.. كما أنه في تردّد مقاتل بين الجبهة وأماكن العمل، حيث يرابط لفترة ويذهب للعمل بالأجر اليومي لفترة أخرى لتوفير قوت أسرته كون المرتبات لما تنتظم منذ إعادة تشكيل الجيش الوطني قبل أكثر من ثلاثة أعوام.
الكرامة أغلى ما تملك الشعوب، والدفاع عنها أسمى غاية الأحرار. كم هو عظيمٌ أن يسهر ويتعب ذوو الولاء الوطني الخالص لينام ويرتاح غيرهم، ويعرّضون أنفسهم للمخاطر من أجل سلامة شعوبهم.
يتلقّى البعض العديد من مضامين الولاء للوطن ومفاهيم التجرّد لأجله، فيظل يكررها ويذكّر الآخرين بها، فإذا نُدب لترجمة أقواله إلى أفعال اثّاقل إلى الأرض وخارت قواه وتغيّرت ملامحه، وفي هذا بيانٌ وتأكيد على أن الولاء الوطني الخالص نابعٌ من عمق المشاعر والوجدان.
أخيراً ما يجري الآن على الساحة اليمنية هو نتيجة لتجرّد فئة عن ولائها للوطن وارتهانها بأجندةٍ خارجية طامعة في أرض اليمن وثرواته، فسلّمته لها ـ أو كادت ـ وقيام فئة أخرى تعمل جاهدةً (لاستعادة النظام) إلى فترة ما قبل الانقلاب المشؤوم، وبين هذه وتلك من ضل الطريق.. ابتعد عن العملاء لكنه لم يقترب من الوطنيين.