مثلت ساحات الحرية و ميادين التغيير في ثورة فبراير تحديا غير مسبوق لسلطة الفرد و نظام الاستبداد.
لم يدر بخلد النظام أن يحتشد الشعب في الساحات بتلك الحشود التي فاقت أكثر تصوراته شؤما، لو أنه – أو من على شاكلته من المستبدين – سمح لنفسه أن يفكر بأن المجتمع قد ينتفض، و أن الشعب قد يثور !
من الصعب أن يفكر أي نظام مستبد هذا التفكير؛ لأن المستبد يطل على الحياة من خلال بطانة هي من تقوّم له الأمور و تصف الأوضاع، وهي من ترى له ، و هي من تسمع له و تُسْمِعه، و هو في الأصل لا يريد أن يرى إلا ما تراه البطانة، و لا يحب أن يسمع إلا ما يسمعه منها، حتى إذا ما غضب الشعب غضبته، قال قائل المستبدين: الآن فهمتكم! و حتى إذا سمع هدير ( التسونامي ) من الشعب يهتف : ارحل، ردد ببلاهة مكشوفة : يرحل !؟ من يرحل ؟
يقظة متأخرة بصدمة متناهية في القوة. و تستمر البطانة في أداء دورها التخديري و التضليلي معا، و الأناني كذلك. تضخ كلمات التخدير ليستمر المستبد في طغيانه، و تسوق تقارير التضليل لتوهمه أن هذه الغضبة الشعبية مجرد غضبة عابرة و ستنتهي، و تحضر الأنفس الشح و الأنانية؛ لتكثف من الإحاطة بالمستبد، فهو مشروعها و ميدان استثمارها و لا بد من عمل أي شيئ للمحافظة على مصدر (الرزق ) و ميدان الاستثمار، وهل المستبد عند حاشيته و بطانته إلا مشروع استثمار ؟
و مادام هذا المشروع يُدِر ّدخلا لمنتفعيه، فليزينوا له من أجل البقاء استخدام كل أساليب القمع.
و كانت جمعة الكرامة، و اختير المكان و الزمن. أُختير المكان باعتبار ساحة التغيير تقع في العاصمة، و أن التخلص منها يؤمن مقر حكم النظام و يُمكّنه من التفرغ للساحات في المحافظات الأخرى. و اختار الزمن يوم جمعة حيث يزداد الحشد، فتكون الضربة المجرمة، بالغة في دمويتها، موجعة في تنفيذها، و مدوّية في أثرها و تأثيرها، إذ قدر المخططون أنها ستحدث انكسارا يطوي ساحة التغيير و ما بعدها.
تلك الأبعاد الإجرامية أرادها المخططون و المنفذون، غير أنهم أغفلوا بُعدًا ينساه الكثيرون، غفلوا عن البُعد الإيماني و الإرادة القوية لحشود و شباب الساحات ، و غفلوا عن أن الله من ورائهم محيط ! فكم هي الأُسر المكلومة و الموجوعة يومها، التي رفعت أكفها بالدعاء، و من خلفها الملايين الذين يدعون معها.
ارتقى شهداء جمعة الكرامة إلى ربهم، و سط ت دماؤهم النصر لثورتهم، التي ستمضي لأهدافها، و ارتفعت معهم دعوات المتضرعين (و لا يظلم ربك أحدا ).